عناوین:

"انقلابات صامتة.. هل نعيها؟"

AM:10:02:20/05/2025
12252 مشاهدة
دلير درويش
+ -

لو وقفنا عند كلمة "انقلاب" لظننَّا أنها مجرد دبابات تُحاصر القصور الرئاسية أو خُطب ثائرة تُطيح بالحكومات، لكن الحقيقة المُذهلة هي أن العالم يعيش ملايين الانقلابات المصغَّرة كل يوم دون أن ننتبه! فالأبناء يثورون على آبائهم بأسلحة "التيك توك" و"اليوتيوب"، والطلاب يشككون في سلطة المعلمين بأسئلةٍ لم تكن تخطر على بال الأمس، والموظفون يرفضون الخنوع لرؤسائهم تحت شعار "حياتي ليست للبيع". حتى الأفكار داخل رؤوسنا تنقلب كالطقس: فاليوم تؤمن بشيء وغدًا تكفره!  

السؤال الذي يُطارِدُنا: لماذا نُفاجأ بهذه الزلازل رغم أنها تحدث أمام أعيننا؟ الجواب ببساطة: لأننا نعيش بثقافة "التغريدات السريعة" بدل القراءة المتأنية، ونتوه في ضجيج "الريلز" المبتذلة فَنفقد القدرة على رؤية التحولات العميقة. لقد صِرنا كمن يركض في متاهةٍ مظلمة بلا بوصلة، نلوم الزمن أو الحظ أو الآخرين، بينما الكارثة تكمن في عقلٍ توقف عن النمو!  

خذ مثالًا بسيطًا: طفلٌ عمره عشر سنوات يصرخ في وجه أبيه: "أنت لا تفهمني!". في الماضي، كانت هذه الجملة تُحلّ بصفعةٍ أو تهديد، أما اليوم فهي إعلانٌ عن ثورة جيلٍ كامل ضد سلطةٍ فقدت شرعيتها. الأبناء لم يعودوا يحتاجون آباءهم ليُعلموهم كيف يشبكون الحذاء أو يحلون معادلة رياضية؛ فالتكنولوجيا قدمت لهم "آباءً بديلين" على منصات التواصل. المشكلة ليست في التمرد، بل في فشل الآباء في تجديد أدواتهم لمواكبة هذا الانقلاب، لأنهم – للأسف – توقفوا عن القراءة عن نفسيات الأبناء وعوالمهم.  

الأمر ذاته يتكرر في الفصول الدراسية. المعلم الذي كان يُلقَّب بـ"المُعلم الأول" صار مجرد رقم في منظومة تعليمية عفا عليها الزمن. الطالب اليوم يسأل: "ما الفائدة من حفظ هذه المعادلات؟"، أو "لماذا لا ندرس مهارات العمل الحر بدل التاريخ القديم؟". انقلابٌ معرفي حوَّل المدرسة من معبدٍ للمعرفة إلى ساحة صراع بين منهجٍ بالي وطلبةٍ يمتلكون كل الإجابات في جيوبهم (هواتفهم!).  

ولا ننسى الانقلاب الأكثر ضراوة: ثورة العمال الصامتة. فشعار "العمل عن بُعد" و"الاستقالات الصامتة" لم يعد ترفًا، بل أصبح سلاحًا ضد ثقافة "الخضوع الأعمى". الموظف اليوم يرفض أن يكون عبدًا لرئيسٍ متسلط أو وظيفةٍ تقتل أحلامه، لأنه يملك خياراتٍ لم تكن موجودة قبل عقدٍ من الزمن.  

لكن أخطر الانقلابات هي تلك التي تحدث داخل الإنسان نفسه. فما الذي يدفع شخصًا إلى التخلي عن قيمه الدينية أو الأخلاقية؟ لماذا نرى إنسانًا ينسى أحلامه ويستسلم للروتين؟ الجواب يكمن في صراعٍ داخلي بين عقلٍ يبحث عن المعرفة وقلبٍ غارق في الشهوات. حينما تتوقف عن قراءة الكتب الإنسانية والدينية، وعن تحليل الواقع الاقتصادي والاجتماعي، تصير كمن يقود سيارته بسرعةٍ على طريقٍ جبلي دون فرامل!  

الخلاصة؟ المعرفة هي الفلاح الوحيد. فالإنسان الواعي لا يُفاجأ بالانقلابات؛ لأنه يدرس التاريخ ليفهم كيف انقلبت الشعوب على طغاتها، ويقرأ في علم النفس ليدرك أسباب تمرد الأبناء، ويتعمق في الدين ليميّز بين القيم الثابتة والعادات المتحجرة. اقرأ اليوم كتابًا عن فلسفة التاريخ، أو مقالًا عن التحولات الاجتماعية، أو حتى شاهد فيديو تحليليًا عميقًا، فالحل ليس في الهرب من التغيير، بل في فهم قوانينه. كما قال علي بن أبي طالب: "لا تربطوا العلم بشخصٍ يُخطئ ويصيب، بل خُذوا الحكمة ممَّن قالها".  

---
بقلم: المستشار الإعلامي والأكاديمي أ.دلير درويش  
---


البوم الصور