عناوین:

عيد من رماد وجوع: غزة تحتضر في صمت العالم

PM:01:31:07/04/2025
1780 مشاهدة
مريم مشتاوي
+ -

لم يكن هذا العيد كسابقه. لم يأت محملا برائحة الكعك ولا بصوت ضحكات الأطفال، وهم يتباهون بملابسهم الجديدة. لم تفتح البيوت لزائريها، ولم تنصب الموائد العامرة بالمحبة والسكر. مر عيد الفطر على غزة كغريب لا يعرفه أحد، كمطر في صحراء لا ينتظر أحد هطوله، كجرح يعتاد صاحبه وجعه حتى لا يعود يميزه عن بقية أيامه.
في غزة، لم يكن العيد إلا فصلا آخر من فصول الوجع، صفحة جديدة في رواية الموت البطيء التي تكتب يوما بعد يوم بمداد الدم وصرير الجوع. لا تكاد تمر لحظة دون أن تئن الأرض تحت صرخات الأطفال الجائعين، ولا ترفع فيها الأيادي إلى السماء إلا بالدعاء أو الوداع.
أربعة أسابيع من الحصار الكامل. لا غذاء، لا ماء، لا دواء. جفت الطرق من المركبات لأن لا وقود فيها، وجف الحلق لأن لا ماء يسقى. أطفال ناحلون كأن الريح تقدر أن تحملهم، نساء يضبطن بطونهن الخاوية بالأمل، ورجال صامتون، لا لأنهم اعتادوا، بل لأن الكلمات خذلتهم مثلما خذلهم العالم.
العيد، في أصله، موعد للفرح. ولكنه حين مر على غزة، انكسر. لم يجد ما يستقبله، فحط رحاله على شواطئ الأحزان، وراح يتجول بين الخيام المهلهلة، يمر على الوجوه الشاحبة، يقلب عيون الأمهات باحثا عن بريق العيد، فلا يجد إلا دموعا مؤجلة، وقلوبا ترتجف من سؤال الأطفال: «أين فطور العيد؟».
البيان الأخير الصادر عن الأمم المتحدة لم يكن صادما لأهل غزة، بل كان تأكيدا لما يعرفونه جيدا، لما يعيشونه ويجربونه كل يوم. الدقيق سينفد خلال أيام، والمخابز التي ما زالت تقاوم في رمقها الأخير ستتوقف. الطحين، الذي أصبح سلعة نادرة، لم يعد يوزع سوى على النصف، وكم من نصف لا يكفي روحا واحدة!
السوق خال من الخضراوات. الأرض التي كانت تنبت الحياة باتت عاقرا، لا لأنها استنفدت خيراتها، بل لأن القصف لم يترك فيها ما يزرع. العاملون في الإغاثة عاجزون عن الحركة، لا لأنهم لا يريدون، بل لأن الحياة نفسها لم تعد آمنة. إسرائيل، منذ الثامن عشر من الشهر الجاري، استأنفت حربها كما لو أن الموت كان في إجازة، وعاد الآن ليكمل مهمته.
المجازر تتكرر… أكثر من 140 ألف إنسان أجبروا على ترك بيوتهم للمرة الثانية، أو الثالثة، أو ربما بلا عد، لأن أوامر الإخلاء لا تعرف منطقا ولا رأفة. التهجير صار عادة، والدمار صار مشهدا معتادا.
منظمة أنقذوا الأطفال أوقفت برامج التغذية. ليس لأن الحاجة قلت، بل لأن فرقها لم تعد تستطيع التنقل وسط نيران لا تفرق بين مسعف ومسلح، بين رضيع وجندي. الأطفال، الذين هم أكثر من مجرد ضحايا، صاروا شهودا على ما لا يحتمل. أجسادهم الضعيفة تحمل آثار الجوع والقلق، ووجوههم الصغيرة لا تشبه الطفولة في شيء. هم يكبرون دون أن يعيشوا، ويجبرون على النضوج وسط ركام لا يخصهم.
الجوع، في غزة، لم يعد مجرد حالة طارئة. إنه وباء صامت، يتسلل في العظام، يتربص بالقلب، ويزرع الخوف في العين. سوء التغذية يتفاقم، والأرامل والمراهقات يزداد ضعفهن في مواجهة عالم بلا رحمة.
القصص كثيرة، ولكن الألم واحد. امرأة تجلس أمام خيمتها، تحتضن طفلتها التي تبكي بلا توقف. «تظن أنني أخبئ عنها طعاما ما»، تقول وهي تحدق في الأفق كأنها تبحث فيه عن رغيف مفقود. طفل في الخامسة يمد يده كلما رأى أحدا يمر، ليس ليطلب مالا، بل ليسأل: «هل معك خبز؟ شبان يقفون في طوابير طويلة أمام مراكز المساعدات، يعلمون أن الأمل ضئيل، ولكن لا خيار لهم سوى الانتظار.
المخابز، تلك التي بقيت، تقنن الإنتاج. رغيف لكل عائلة، وربما نصف، وربما لا شيء. الطحين قليل، والوقود أقل، والطلبات أكثر من أن تعد. العاملون هناك يخبزون كما لو أنهم يقاتلون، يخوضون معركة ضد العدم، ضد الجوع الذي صار وحشا يفترس كل شيء.
في كل بيت، قصة مقاومة. امرأة تصنع الخبز من العدس المطحون. رجل يطهو على الحطب لأن الغاز نفد منذ أسابيع. أطفال يأكلون حساء بلا طعم لأن لا ملح هناك، ولا خضار، ولا لحم. ومع ذلك، تقام صلاة العيد. ترفع الأيادي المرتجفة بالدعاء، تستقبل الشمس بصبر، ويغتسل القلب باليقين. ورغم كل شيء، لا تطفأ الأنوار في قلوبهم. في مكان ما، وسط هذا الركام، يجهز أحدهم فوانيس العيد المصنوعة من علب الزيت الفارغة. في مكان آخر، ترسم طفلة على جدار مدرستها المهدم قلبا كبيرا، وتكتب فيه: «عيدنا جاي».. كأنها تصالح القدر أو تهدئ حزن أمها.
غزة، بكل جراحها، لا تزال تحب الحياة. تعيشها، ولو بلون باهت، ولو عبر رغيف مقسوم على عشرة، ولو من خلال ضوء شمعة تحترق لتنير لحظة صدق.
ففي غزة، لا يقاس العيد بالحلويات، بل بالنجاة. لا يقاس بالزينة، بل بالكرامة. لا يقاس بالمظاهر، بل بالإيمان. وهنا، في هذا الركن من العالم، ما زال العيد يولد، كل يوم، من رحم الجوع.

حين غنى المدرج: مصر والسودان قلب واحد

في ليلة امتزج فيها الهتاف بالحنين، رفعت جماهير الهلال السوداني في استاد القاهرة لافتة بسيطة المعنى، عميقة الدلالة: «شكرا مصر.» لم تكن مجرد كلمات، بل اعترافا بنبل الاستضافة، وتحية وفاء لشعب لم يغلق بابه يوما. وسرعان ما جاء الرد من مدرجات الأهلي، كنبض متصل لا يعرف الانقطاع: «مصر والسودان إيد واحدة».
لقد أثبت الجمهوران، في تلك الأمسية، أن الشعوب لا تحتاج إلى معاهدات لتتحد، ولا إلى قرارات رسمية كي تحب. يكفي أن تطلق المشاعر العنان لنفسها، وأن يترك للقلب حرية التعبير، ليقال ما عجزت عنه البيانات والخطب.
هكذا تلاقت الأرواح قبل الأقدام، وغابت المنافسة لتظهر الأخوة بأبهى صورها. في تلك اللحظة، تحول الاستاد إلى معلم قومي، لا يرفع فيه علم ناد بل راية شعبين توحدهما الذاكرة، والمصير، والنيل.
لم تكن مباراة… كانت قصيدة انتماء.

البوم الصور