عناوین:

مصر: عيادة 'طبيب الغلابة' تعود للعمل.. من هو خليفته الجديد؟

PM:04:55:10/09/2021

3000 مشاهدة

بعد شهرين من وفاة "طبيب الغلابة" محمد المشالي، عادت عيادته للعمل وفتحت أبوابها أمام المرضى الفقراء، بعد أن نسق خليفته الجديد الطبيب المتقاعد حسني سعد قطب مع أسرة الراحل في شأن تولي العيادة.
وبحسب تقرير لموقع "الجزيرة الوثائقية"، وتابعه NRT اليوم، (10 ايلول 2021)، فان عيادة "طبيب الغلابة" عادت إلى العمل بعد شهرين من وفاته، وبعد أن أوصدت أبوابها التي ظلت مشرعة أمام الفقراء والمرضى لأكثر من خمسين سنة.
الطبيب المتقاعد الدكتور حسني سعد قطب استشاري جراحة وأمراض الكبد، لم يرد لتلك العيادة أن تغلق أبوابها، بعد أن ظلت لعقود أمل الفقير المصري، يأتي إليها مريضا فيخرج بالشفاء والعلاج دون أن يتكلف إلا بعض جنيهات قليلة لمن استطاع، وأغلب من يأتون إليها لا يدفعون أي فلس أصلا، بل يخرجون من العيادة بالكشف والدواء المجاني.
وصية الأب الباقية.. قصة أشهر أطباء العالم العربي
عيادة محمد المشالي ستستمر، وستواصل عملها كما كانت، وبهذا تعهد خليفته الجديد، بعد أن نسق مع أسرة الراحل في شأن تولي العيادة، وفتحها أمام المرضى الفقراء الذين لن يجدوا أرحم بهم من قلب طبيب لا يريد للثراء سبيلا.
إنه محمد المشالي ابن الـ76 سنة، الذي عاش عمره ووصية والده ترن في أذنه أن لا يأخذ من الفقير والمعدم أجرا على العلاج والدواء، وكانت تلك الوصية صوت الضمير الحي الذي ضج في أعماق ذلك الطبيب الأشهر إنسانية في مصر والعالم العربي.
لم تزد السنون محمد المشالي إلا عزما وتصميما وإصرارا على أن لا يأخذ من الفقراء أجرا على الشفاء الذي يحمله لهم على يد الصبر والتواضع والبسمة والكرم.
ابن الحاج الفقير.. صاحب الخدمة الطبية المجانية بالأرياف
ولد محمد المشالي سنة 1944 لأب يعمل في قطاع التعليم والتربية، كانت الأسرة فقيرة جدا، فراتب المدرس الحاج عبد الغفار مشالي لا يكفي لسد حاجيات أسرة متعددة الأفراد، لكنها كانت تملك كنزا كبيرا من القناعة والكرم، فها هو الحاج يوصي ابنه أن لا يأخذ من الفقير أي أجر على العلاج، رغم أن مهنة الطب من أكبر مصادر الدخل وسبل الإثراء السريع في مصر، بل والعالم كله.
تخرج المشالي من كلية الطب في القاهرة سنة 1967، ومنذ ذلك التاريخ، وهو يقدم الخدمة الطبية المجانية للفقراء، مستمرا في بذل الخير، إلى أن عجز الجسم الضعيف وتوقف عن إسناد الروح الوثابة، وقبل ذلك بساعات كان عائدا من يوم طويل من أيامه الخيرية في عيادته المتواضعة بمدينة طنطا.
طفل السكري.. حقنة الإنسولين التي غيرت المسيرة
لم يكن أغلب المصريين يعرفون المشالي حتى قفزت قصته قبل سنوات قليلة إلى الواجهة بعد أن اكتشفته وسائل إعلام مصرية، ونقلت قصته المبهرة إلى العالم، حيث أصبح أحد أشهر الشخصيات العربية في مجال الإحسان والعمل الإنساني.
تحدث المشالي عن قصة حقنة الأنسولين التي غيرت مسيرته، وعززت قناعاته التي غرستها وصية والده، كانت الدموع تسبق المشالي وهو يسرد قصة طفل صغير مصاب بالسكري، ويذكر أنه عين في إحدى الوحدات الصحية بمنطقة فقيرة، وذهب لعلاج طفل صغير مريض بالسكري يبكي من الألم، ويقول لوالدته أعطني حقنة الأنسولين، فردت أم الطفل قائلة إنها لو اشتريت حقنة الإنسولين فلن تستطيع شراء الطعام لباقي إخوته، ليسارع بعدها الطفل ويصعد إلى سطح المنزل ويشعل النار في نفسه.
حاول الطبيب الراحل إنقاذ الطفل، ولم يتمكن من ذلك، ولكن آخر كلمات الطفل وهو يوجه حديثه لأمه: "فعلت ذلك من أجل توفير ثمن الإنسولين لإخوتي"؛ بقيت ترن في أذن الطبيب الراحل لعقود من الزمن.
فقد كانت تلك القصة المبكية منعرجا فعليا في حياة الراحل الذي لم يكن يحتاج دافعا إنسانيا ليؤدي برحمة وإتقان وظيفة ملائكة الشفاء.
ومن ذلك اليوم قرر المرحوم المشالي أن يوقف نفسه على الفقراء طبيبا وخادما ومنفقا، فطبيب الفقراء الذي عاش في أسرة فقيرة، لا يزال يحس بألم الفقر، رغم الفرص التي أتيحت له لأن يكون من أثرياء القطاع، لكنه اختار طريقا لا يجمع فيه الأموال، بل يجمع دعوات القلوب، وحب الأفئدة التي أراحها من أمراض وآلام متعددة، ورسم البسمات من جديد على شفاهها العابسة، بعد توفيق الله.
رنين الدعوات.. أجور مدفوعة في مصرف السماء
كان المشالي يلاحظ أن أمراض الفقراء جزء من حياتهم اليومية، إذ يعج الريف المصري -كغيره من الأرياف في منطقتنا- بأمراض كثيرة متعلقة بسوء التغذية وتأثير المياه الملوثة، إلى غير ذلك من الأمراض التي تعكس بالفعل سيطرة الفقر وتأثيره وحدة آلامه على أجساد وأرواح المعدمين.
ولأن الأطفال في الريف هم الحلقة الأضعف والأكثر تأثرا بضيق الحياة، فقد تخصص المشالي -بعد حادثة طفل الأنسولين- في أمراض الأطفال، وأعاد إلى آلاف الأجسام الغضة الصغيرة بسماتها التي اختطفتها آلام المرض، وبدون مقابل في أغلب الأحيان، كان المشالي يقدم الشفاء في باقة من التفاؤل والكرم.
ولقد كان المكسب الأكبر الذي حصله المشالي في رحلته النبيلة في الحياة، هو آلاف الدعوات التي كانت تصعد من قلوب الفقراء عابرة حجاب الدنيا إلى السماء، تبتهل إلى الله أن يسعد الطبيب المشالي في دنياه وآخرته، وأن يبعد عنه "أبناء الحرام"، وأن يفتح الله حياة السعادة في طريقه.
كانت دعوات أبناء الصعيد أهم مكسب وربح، وكانت رجع صدى لوصايا أساتذة كلية الطب، لطلابهم أن أمامهم طريقين، طريق الثراء والمال والنجومية، وطريق آخر مفروشة بدعوات الفقراء، لكنها مرتبطة بالعمل في الريف وبين قرى وأحراش الفقراء، فاختار المشالي الطريق الثانية، وكانت آخر وصاياه لأسرته وأبنائه أن يستوصوا بالفقراء خيرا.
وقد كان المشالي يرى في هذه الدعوات سنده الأول في الحياة، فقد قال في إحدى مقابلاته إن هذه الدعوات ترن في أذنه كل حين، ويعتبرها أهم حصونه في الحياة التي لم يعمر فيها طويلا، رغم ملامح التعب والشيخوخة التي ظهرت على جسده الضعيف، قبل أن يتوقف عداد حياته النبيلة عند السنة السادسة والسبعين.
بساطة العيادة والطبيب.. مراعاة نفسية المريض الفقير
عرف الدكتور المشالي بمظهره البسيط، وملابسه المتواضعة جدا، وبعيادته الصغيرة التي تغلب عليها البساطة، ويذهب أبناء المرحوم المشالي إلى القول إن والدهم اختار هذه المشاهد بعناية، فقد كانت ملابسه رسالة صامتة إلى الفقراء بأنهم يقفون أمام رجل منهم يحبهم أكثر مما يحب نفسه، ويحمل إليهم نور الحياة وفرح الشفاء.
كان المشالي يردد لأسرته بأنه يريد أن لا يتفاجأ المريض الفقير من شكل العيادة ولا من ملابس الطبيب، وعندما يجد الفقير نفسه في عيادة براقة، وأمام طبيب بملابس زاهية، فسيشعر بالحرج وتنكسر نفسه.
وبهذا كان المشالي طبيبا نفسيا أيضا ومربيا يراعي نفسيات المرضى وأسرهم، ويسعى دائما لأن يحتضنهم بالعلاج والدواء والنصح، وحتى بالانتماء الاجتماعي إلى طبقتهم التي تملك أهم كنوز الدنيا وهي الطيبة والبساطة وسلالم الدعاء الرابطة بين الأرض والسماء.
"ساندويتش الفول والطعمية يكفيني".. كنز القناعة
ظل المشالي محافظا على صرامة برنامجه اليومي الذي يبدأ من السابعة والنصف صباحا، وينتهي بعد أذان المغرب، قبل أن يتوجه إلى قريتين أخريين لتوقيع الكشف الطبي، وتظل تكلفة الكشف الطبي والعلاج دائما في حدود زهيدة لا تتجاوز نصف دولار.
لكن المشالي حافظ أيضا على عفة يده وقناعة ضميره، حيث رفض استلام مبلغ مالي كبير هدية في برنامج تلفزيوني من أجل تجديد عيادته، ومساعدته في عمله التطوعي لعلاج المرضى، فرد المبلغ المذكور بكل قناعة وإباء، وبدأ يتحدث عن غناه عن الناس، بل وأنه أخذ من هذه الحياة أكثر مما يستحق، وأنه لا يريد العون من غير الله تعالى، ونصح مقدمي الهدية بأن يوجهوها إلى القطاعات الأكثر فقرا، مثل الأطفال الأيتام والمحتاجين والأطفال المشردين في الشوارع.
ولم يكن رفض الرجل للمال المقدم له يقظة ضمير عابرة، بل كانت منهج حياة، حيث كان يكتفي منها بالبسيط من كل شيء مأكلا ومشربا، ويقول في إحدى مقابلاته: نشأت فقيرا وساندويتش الفول والطعمية يكفيني، ولا أريد أن ألبس ملابس بآلاف الجنيهات أو أركب سيارة طولها 10 أمتار.
"آثر مساندة الفقراء والمحتاجين والمرضى".. نعي الأزهر
نعت قطاعات متعددة في مصر الطبيب محمد المشالي، ورأوا في رحيله إقلاع روح إنسانية كانت تظلل مصر، ولا تريد من ذلك جزاء ولا شكورا.
ومن بين من نعى وأثنى على الدكتور المشالي شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، حيث كتب: رحم الله طبيب الغلابة الدكتور محمد مشالي، وأسكنه فسيح جناته، فقد ضرب المثل في الإنسانية، وعلم يقينا أن الدنيا دار فناء، فآثر مساندة الفقراء والمحتاجين والمرضى حتى في آخر أيام حياته، فاللهم اخلف عليه في دار الحق وأنزله منزلة النبيين والصديقين والشهداء.
وبرحيل طبيب الغلابة تطوى صفحة ناضرة من تاريخ أشخاص نادرين يعيشون كالملائكة فوق الأرض، ويرحلون كما يرحل الربيع، وكل الناس في أمس الحاجة إليه.
A.A






البوم الصور