عناوین:

ما بعد الانتخابات: زمن المراجعة لا المهاترات والخنادق

PM:12:08:25/10/2021
1980 مشاهدة
اياد العنبر
+ -

يبدو أن علاقة ساسة العراق لا يقتصر سوءها مع الشعب فقط، إذ هي أكثر سوءاً بالتاريخ، فهم لم يقرؤوا عن أحد أعظم رؤساء الحكومات البريطانية "ونستون تشرشل" الذي يكفيه فخراً أنه خلال الحرب العالمية الثانية نقل بلدَه من حافة الهزيمة إلى النصر، ورغم إنجازاته العظيمة في النصر على النازية والفاشية، فإنه هُزِمَ في الانتخابات العامة في يوليو 1945.
وأيضاً لم يقرؤوا عن شارل ديغول الزعيم السياسي والقائد العسكري الفرنسي الذي قاد مقاومة بلاده للاحتلال الألماني في أربعينيات القرن الماضي، ومؤسس الجمهورية الخامسة، ورغم كلّ هذه الإنجازات فضَّل ديغول الاستقالة من رئاسة الجمهورية عام 1969 بعد تصويت أغلبية الفرنسيين ضدّ مشروعه الحكومي لإصلاح نظام الحكم والإدارة في البلاد. 
هذان النموذجان لقادةٍ كبار حفروا في ذاكرة التاريخ والأجيال أسماءَهم من خلال منجزاتهم التي قدّموها لبلدانهم، ودافعوا عن مصالحها، لكنّهم لم يعيّروا شعوبَهم بمنجزاتهم عندما لم تنتخبهم، واكتفوا بانسحاب هادئ من العمل السياسي.
أما ساستنا الأشاوس فهم لا يعرفون عن الانتخابات غير اعتبارها مواسم احتفالية لتجديد بقائهم في الحكم، لأنَّ مخيلتهم لا تريد مغادرة مفاهيم البَيعة والطاعة لهم من قبل الشعب. فالعامة- وهو مصطلح لوصف عامة الناس ويتداول كثيراً على ألسُن النخب السياسية ورجال الدين والمثقفين- لا يعرفون مصلحتَهم ولا يجيدون اختيار مَن يحكمهم! 
وهنا تكمن مفارقة مؤلمة؛ إذ بدلاً من العمل على مراجعة المواقف والسياسات وحتّى الخطابات، يحاولون المكابرة ويلجؤون إلى الطعن بالعملية الانتخابية، ويحركون جيوشَهم الإلكترونية وماكنتهم الإعلامية للترويج بأن الانتخابات مزوّرة، وهناك تلاعب بالنتائج وتدخلات خارجية وراء سرقة أصواتهم! أيُّ بؤسٍ هذا الذي يعيشه العراقيون مع هكذا نخبة سياسية فشلت حتّى في تقديم مبررات مقنعة يمكن أن تطعن بالانتخابات!
انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول، كانت لها ملامح جديدة يمكن القول أنها دقَّت جرسَ الإنذار لدى القوى والأحزاب التقليدية، إن كانت تقرأ رسائلها جيّداً. فإن فوز الشخصيات المستقلّة التي حصلت على أعلى الأصوات يقدّم رسالة تأكيد على انعدام الثقة بالوجوه السياسية التقليدية التي ترشحها أحزاب السلطة، والتصويت لنساء تجاوزن نسبة الكوتا وحصلن على أعلى الأصوات في دوائرهن الانتخابية، ولعلَّ ذلك الفوز أصدق تعبير عن رغبة الناس بتغيير الشخصيات التي انتهت مدة صلاحيتها السياسية، وتعبر عن ثقتهم بشخصيات تعتقد أنها قادرة على الدفاع عن مصالح ومتطلبات جمهورها.
ولم تكن رسائل الانتخابات التي تفرض وجوب المراجعة وإعادة الحسابات مقتصرةً على منطقة محددة من مناطق العراق. ففي كردستان كانت النتائج تؤشر صعود قوى جديدة ومنح الثقة لبعض السياسيين كعقوبة للقوى السياسية المهيمنة، وفي المناطق الغربية كانت النتائج رسالة بمنح الثقة لمن يقدّم منجزاً خدمياً، حتى وإن كان بسيطاً ولا يلبي الطموح، وليس لِمَن يرفع شعارات سياسية فقط، ولعلَّ العقوبة الأكبر كانت لقوى أحزاب الإسلام السياسي في تلك المناطق الذي لم يعد لهم حضور ولا فاعلية في المشهد السياسي.
نعم، قد تكون الرسالة الأبرز والأهم في المناطق الوسطى والجنوبية التي يجب أن تعنى بها الطبقة السياسية الشيعية، كونها معنيّة بالنظر والتمعن بنتائج الانتخابات التي خسرها من أراد الإبقاء على خطاب خنادق الحرب وتخندقات السلطة السياسية، وعجز عن تقديم خطاب يؤشّر مرحلةً جديدةً توثق العلاقة بين المواطن والقوى الحاكمة والمتنفذة. خصوصاً بعد أن تم استهلاك العناوين السياسية في التحالفات التي ترفع شعارات ولافتات باسمِ المواطن في الانتخابات السابقة ولم يجن منها المواطنُ إلا زيادة في أعداد العاطلين عن العمل، وخرابَ الطرقات ودمار البُنى التحتية. ولذك عندما رفعت هذه القوى شعارَ "الدولة" في الانتخابات كان مثاراً للسخرية والاستهزاء؛ لأنَّ مَن رفعه هو من ساهم ورسَّخ خرابَ الدولة وضياعها. 
وكعادتها تعيش القوى السياسيةُ الخاسرةُ في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول على أوهامِ الزعامة والتأثير بالشارع، كما صوّرت لها حاشيتُها والمقربون منها، ولذلك تجدها تخرج في مناسبة أو ومِن دون مناسبة تكرر خطابات سياسية مملّة إلى درجة الغثيان، ولا تقيس ردودَ الأفعال بشأنها إلا بالقدرِ الذي تثيره من مهاترات سياسية لا أكثر ولا أقل.
وهذه الخطابات غالباً ما تناقض الأفعال والمواقف السياسية، ولعلَّ دليل ذلك موقف الكتل السياسية من رفع سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي، إذ جرى بموافقة جميع الكتل السياسية وتم تمريره داخل مجلس النوّاب، ولكنّها تخرج للإعلام وتدّعي أنها لم تكن مواقفة على هذا القرار، وهذا نوع من النفاق السياسي لا يتم حساب تبعاته على الثقة السياسية بين الشارع ومَن يدّعي أنّه زعيم سياسي!
الآن حان وقت المراجعة التي يجب أن تبدأ بإعادة الحسابات السياسية، لا سيما بعد تشرين الاحتجاجات وتشرين الانتخابات، فمَن كان يعوّل على فوزه بالانتخابات أو بقائه ضمن منظومة السلطة على أساس توظيف الخطاب الطائفي، أو إثارة المخاوف من عودة البعث، أصبح اليوم خارج معادلة التأثير السياسي بعد أن رفضه الشارع.
ومَن كان يتعكّز على خطاب المقاومة والجهاد ضدّ تنظيم داعش وحصد ثمارها في انتخابات 2018، هو الآن مُطالَب بأن يعيد النظرَ في حساباته ومواقفه السياسية، فخنادق القتال وميدان المعارك هو ليس ميدان العمل السياسي، الذي يحتاج بالدرجة الأولى توثيق العلاقة مع الجمهور على أساس المنجَز الذي يقدّم له وليس خطابات ماضوية تريد إشعار المواطنِ بالذُّل. 

البوم الصور